تعود العلاقات بين السودان وجمهورية الصين الشعبية إلى خمسينيات القرن العشرين، وأول لقاء بين السودان والصين تم في عام 1955 في مدينة باندونج الإندونيسية, حيث التقى رئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري ورئيس الوزراء الصيني آنذاك "شون لاي" خلال اجتماعات مؤتمر باندونج -الذي أسس فيما بعد لحركة عدم الانحياز... كان السودان من أوائل الدول الأفريقية والعربية التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية ممثلاً للصين في زمن كان فيه مثل هذا القرار يكلف الدول الفتية ثمناً فادحاً في علاقاتها مع "المعسكر الغربي" وأساساً الولايات المتحدة الأميركية, لكن مهندس السياسة الخارجية السودانية آنذاك (عام 1958 في عهد الفريق إبراهيم عبود) الأستاذ أحمد خير قد توصل إلى المعادلة التي مكنت النظام العسكري الجديد من التوازن في علاقاته بين الصين وأميركا... فمن جانب اعترف بالصين الشعبية التي كان الاعتراف بها مطلباً شعبياً في السودان، ومن جانب آخر مد يده إلى الولايات المتحدة وقبل "المعونة الأميركية " التي عجزت الحكومة البرلمانية السابقة عن قبولها بسبب المعارضة الشعبية الغالبة والتي شملت حتى أعضاء في الحكومة (حكومة ائتلاف حزبي "الأمة" و"الشعب الديمقراطي" التي تعرف سودانياً بـ"حكومة السيدين").. وليس صحيحاً ذلك الفهم الخاطئ الشائع بأن "نظام الإنقاذ" هو الذي جلب السلاح الصيني للسودان... فالحقيقة أن "الإنقاذ" قد ورثت ضمن ما ورثت صفقة من السلاح عقدتها آخر الحكومات الديمقراطية في السودان في عام 1988 مع الصين الشعبية، وقد كانت اولى دفعات الاسلحة في طريقها للبلاد عندما وقع انقلاب يونيو 1989... لكن الإنقاذ بمكرها الشديد عرفت كيف تطور علاقاتها مع "الصين الشيوعية الكافرة" إلى درجة أصبح فيها "الحلف السوداني- الصيني" أهم ركائز السياسة الخارجية لنظام الإنقاذ. صحيح أن البترول السوداني الذي تشتري الصين ثلثي إنتاجه والذي استثمرت فيه مبالغ ضخمة لا يمثل سوى جزء بسيط من احتياجات الصين البترولية. وصحيح أيضاً أن صادرات الصين التجارية والمشاريع الإنشائية التي تبنيها في السودان، لا تقاس ولا تقارن بحجم علاقاتها التجارية ليس بالولايات المتحدة بل حتى ببلد متوسط مثل كندا إذ أن الصين تمثل اليوم الشريك التجاري الثاني لكندا... وليس معنى هذا ان العلاقات البترولية والتجارية بما فيها تصدير السلاح للسودان لا قيمة لها عند الصين.. لكن العامل والفاعل الذي له القيمة الأعلى بالنسبة للصين هو العامل الاستراتيجي السياسي، فالسودان هو بوابة أفريقيا في الحاضر والمستقبل. وقد ظلت تنسج علاقاتها مع السودان كما سبق القول منذ الخمسينات ولم تحل التطورات والانقلابات العسكرية المتنوعة بين الصين والاستمرار في "تطوير" علاقاتها مع مختلف الأنظمة السودانية، وحتى وإبان حميمية العلاقات السودانية- السوفيتية لم تتردد الصين في مد الجسور مع "نظام مايو" مع تذكيره بأن الصين الاشتراكية ليست لديها تطلعات إمبريالية مثل المنشقين السوفيت! اليوم نجد الصين الشعبية وهي تستعد لاستقبال دورة الألعاب الأولمبية العام القادم أمام حرج شديد بل قل مأزق شديد.. فالضغوط الدولية عليها باعتبارها العضو الدائم في مجلس الأمن الذي يعرقل القرار الدولي بالتدخل الحاسم في دارفور قد اتخذ ناحية جديدة.. فقد اختلطت الرياضة بالسياسة وأصبحت هناك أصوات مرتفعة تطالب بعدم الاشتراك في دورة بكين الأولمبية احتجاجاً على دور الصين ومساندتها لحكومة السودان ومدها بالسلاح "الذي يقتل به المدنيين الأبرياء في دارفور". وبدأت منظمات دولية حقوقية وإنسانية محترمة حملة من الضغوط على الدول الكبرى تطالبها بموقف أشد حسماً تجاه موضوع الصين والسودان... وعلى رغم أن الصين تتمسك دائماً بمقولتها القديمة "نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية لأصدقائنا، ولا نمارس عليهم ابتزازا سياسياً" إلا أن المؤكد أن الحملة بالتهديد بمقاطعة دورة بكين الأولمبية قد بدأت تقلق الصين الشعبية. فوزير الخارجية الصيني الذي وصف القائمين بالحملة بأنهم "بضعة أفراد يريدون يريدون تسييس الرياضة"، وبأنهم "سيفشلون في مسعاهم"، بدأ يتحدث ويتحرك مندوبه في اتجاه "جميع الأطراف المعنية بمسألة دارفور. وأن الصين تريد حلاً سلمياً لهذا الصراع" حسبما قال في تصريح صحفي مؤخراً... دورة بكين للألعاب الأولمبية تعني بالنسبة للصين أمراً أكبر من مباريات كرة القدم وغيرها من الألعاب الرياضية.. أن تقام الدورة وتنجح نجاحاً يساوي حجم الصين الدولي هو أمر لديهم متعلق بالكرامة الوطنية الصينية... ومرتبط بدور الصين كقوة كبرى في العالم، على رغم تواضعهم وإنكارهم دائماً أنهم يتطلعون إلى دور كهذا، لأنهم ليسو إمبرياليين مثل الآخرين!!